الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي من الأرض كالنبات، والحبوب والمعادن، والكنوز، والدفائن وغير ذلك، ويعلم ما ينزل من السماء من المطر، والثلج، والبرد، والزرق وغير ذلك، وما يعرج: أي يصعد فيها أي السماء كالأعمال الصالحة، كما بينه بقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وكأرواح المؤمنين وغير ذلك كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] الآية.وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يعلم جميع ما ذكره في سورة الحديد في قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].وقد أوضحنا الآيات الدالة على كمال إحاطة علم الله بكل شيء في أول سورة هود، في الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} [هود: 5] الآية، وفي مواضع أخر متعددة.قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار أنكروا البعث، وقالوا: لا تأتينا الساعة: أي القيامة، وأنه جل وعلا أمر نبيه أن يقسم لهم بربه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكدًا ذلك توكيدًا متعددًا.وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتَ} [النحل: 38] وقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] وقوله تعالى عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان: 35] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا، وما ذكره جل وعلا من أنه أمر نبيه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون، جاء موضحًا في مواضع أخر.قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهن مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] والثانية هذه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] والثالثة: في سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] الآية.وقد قدمنا البراهين الدالة على البعث بعد الموت من القرآن في سورة البقرة، وسورة النحل وغيرهما.وقد قدمنا الآيات الدالة على إنكار الكفار البعث، وما أعدّ الله لمنكري البعث من العذاب في الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيرًا} [الفرفان: 11] وفي مواضع أخر. وقوله: قل بلى لفظة بلى قد قدمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء بلى} [النحل: 28] الآية.قوله تعالى: {عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد بيّناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لاَ يَعْزُبَ} أي لا يغيب عنه مثقال ذرة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
يعني أن الجهل غائب عنه ليس متَّصفًا به. وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر: {عالم الغيب } بألف بعد العين، وتخفيف اللام المكسورة، وضم الميم على وزن فاعل. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {عالم الغيب } كقراءة نافع وابن عامر: إلا أنهم يخفضون الميم وعلى قراءة نافع، وابن عامر: بضم الميم من قوله: عالم الغيب، فهو مبتدأ خبره جملة: {لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ} الآية. أو خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم الغيب.وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم {عالم الغيب } بخفض الميم فهو نعت لقوله ربي: أي قل بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم، وكذلك على قراءة حمزة، والكسائي: {علاَّم الغيب} وقرأ هذا الحرف عامة القرّاء غير الكسائي: {علاّم الغيب} وقرأ هذا الحرف عامة القرّاء غير الكسائي: {لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ} بضم الزاي من يعزب، وقرأه الكسائي بكسر الزاي. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}.لم يبين هنا نوع هذا العذاب، ولكنه بينه بقوله في الحج: {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك أَصْحَابُ الجحيم} [الحج: 51] وقوله: {مُعَاجِزِينَ} أي مغالبين، ومسابقين يظنون أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر على بعثهم وعذابهم، والرجز العذاب كما قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا} [البقرة: 59] الآية، وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: {معجزين } بلا ألف بعد العين مع تشديد الجيم المكسورة. وقرأه الباقون بألف بعد العين، وتخفيف الجيم، ومعنى قراءة التشديد أنهم يحسبون أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر على بعثهم وعقابهم.وقال بعضهم: أن معنى {معجزين } بالتشديد: أي مثبطين الناس عن الإيمان وقرأ ابن كثير، وحفص {من رجز أليمٌ} بضم الميم من قوله: {أليم } على أنه نعت لقوله: {عذاب} وقرأ الباقون: {أليم} بالخفض على أنه نعت لقوله: {رجز}قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى قوله: {والضلال البعيد}.ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار البعث، وتكذيب الله لهم في ذلك قدم موضحًا في مواضع كثيرة، من هذا الكتاب في البقرة والنحل وغيرهما.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي تمزقت أجسادكم وتفرقت وبليت عظامكم، واختلطت بالأرض. وتلاشت فيها. وقوله عنهم: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي البعث بعد الموت وهو مصب إنكارهم قبحهم الله، وهو جل وعلا يعلم ما تلاشى في الأرض من أجسادهم، وعظامهم كما قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4].قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السماء والأرض}.ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من توبيخ الكفار، وتقريعهم على عدم تفكرهم ونظرهم إلى ما بين أيديهم، وما خلفهم من السماء والأرض، ليستدلوا بذلك على كمال قدرة الله على البعث، وعلى كل شيء، وأنه هو المعبود وحده جاء موضحًا في مواضع أخر، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 68] {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمَ} [الأعراف: 185]. وقوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة.وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال عبد بن حيمد، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السماء والأرض} قال: إنك إن نظرت عن يمينك، أو عن شمالك أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السماء}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أمرين:أحدهما: أنه إن شاء خسف الأرض بالكفار، خسفها بهم لقدرته على ذلك.والثاني: أنه إن شاء أن يسقط عليهم كسفًا من السماء فعل ذلك أيضًا لقدرته عليه.أما الأول الذي هو أنّه لو شاء أن يخسف بهم الأرض لفعل، فقد ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السماء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، وقوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} [الإسراء: 68] الآية. وقوله تعالى: {لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص: 82]، وقوله تعالى في الأنعام: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] الآية.وقوله هنا: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السماء} قد بيّنا في سورة بني إسرائيل أنه هو المراد بقوله تعالى عن الكفار: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] الآية. وقرأه حمزة والكسائي: {إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفًا من السماء} بالياء المثناة التحتية في الأفعال الثلاثة. أعني {يشأ} . و{يخسف} . و{يسقط} ، وعلى هذه القراءة فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى أي إن يشأ هو أي الله يخسف بهم الأرض، وقرأ الباقون بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة أي إن نشأ نحن إلخ. وقرأ حفص عن عاصم: {كسفًا} بفتح السين، والباقون بسكونها والكسف بفتح السين القطع، والكسف بسكون السين واحدها. اهـ.
|